هواءٌ من بحرٍ لم يَعُدْ لنا | شعر

جارسييلا إيتوربيدي

 

التجوّل في الريف بحاسّةٍ واحدة

أمام الشجرة الّتي تشرّبتْ

بولَ طفلٍ صغير

أصغي إلى التراب

وهو يمتصّ السائل الذهبيّ بشراهة

تاركًا خلفه رغوةً بيضاء

 

وأصغي لصراخ دودةٍ

تنقلب على ظهرها

رغم أرجلها الكثيرة

الّتي لم تغادر فَيْءَ صخرةٍ منذ ولادتها

 

وأصغي للهدير الّذي يُحْدِثُه

سرب نملٍ أسودَ

يرسم خطًّا متحرّكًا لا فراغ فيه

 

وأصغي لعناق كلبين

يشمّان بعضهما

ويتبادلان لحساتٍ خاطفةً على الرصيف

قبل أن يواصلا المسير

برفقة سيّدهما،

كلٌّ في اتّجاهٍ معاكس

 

وإلى زعيق خنزيرٍ برّيٍّ

يُساق إلى الشاحنة

جرًّا من عنقه

عرف بالحدس وحده أنّه يُقاد إلى حتفه

 

وأصغي إلى زلزالٍ نائمٍ

تحت العشب الأخضر

الّذي ينحني على قدميّ

 

وأصغي إلى الهواء

هذا الّذي يسقط فجأةً في جوفي

 

وإلى دفقة دمٍ جديدة

محمّلةٍ بالضوء

والأوكسجين

يدفعها القلب

 إلى الأطراف

حتّى أطراف الأصابع

 

 

الأمّ الراحلة

الرفوةُ في ساقِ بنطالي القديم

بقيتْ إرثًا حيًّا

ليديكِ الماهرتين بخياطة

التمزّقات الصغيرة

الّتي غالبًا ما تفاجئنا في الملابس الّتي نحبّ

 

كنتِ جالسةً أمام نافذةٍ مشرعةٍ

على هواءٍ أليف... يأتي من بحرٍ لم يعد لنا

تمرّرين الخيط في ثقب الإبرة

بيدٍ خفيفةٍ ترتعش

 

وتتحدّثين بصوتٍ متعبٍ

تسمعه مرّةً

فيسكن الجسد إلى الأبد

 

كم استغرقتُ في النظر إليكِ

بأنفاسٍ طويلةٍ

وبعينين واسعتين

تعانقان الوقت

الّذي كان يأتي وقع خطاه

من ساعة الحائط القديمة

 

ولم يكن هذا كافيًا

ومرّ مثل أيّ وقتٍ مضى

وحتّى بسرعةٍ أكبر

...

الرفوة في البنطال القديم

ظلّت مثل توقيعٍ شخصيٍّ

من خيوطٍ بيضاءَ

تتعانق فيما بينها

 

ومثل ذكرى قديمةٍ

تنبض في قماشٍ مهترئٍ

مطويٍّ بعنايةٍ

على رفّ الخزانة البعيد عن متناول اليد

 

 

مهارة التنفّس في مكانٍ عامّ

الرجال الهرمون في ركن القاعة
بابتسامةٍ ترسمها التجاعيد
ينفخون أنفاسًا متقطّعةً
على كعكة ميلادٍ تسيل عليها الشموع

 

يدفعون هواءً ضعيفًا من صدورهم
تتراقص الشعلات أمامه
وتذوي قليلًا... لكنّها لا تنطفئ

 

لم تسعفهم
نفخاتُ عازف الساكسفون الطويلة
الّتي تنساب من الراديو المعلّق

 

ولا بائع الكستناء الكهل
على مدخل المقهى
ينفخ بمهارةٍ لإخماد النار في يده
كلّما أخرج حبّةً من الموقد

 

ولا الشابّ المحنيّ على المنفضة
ينفخ هواءً أبيضَ ناعمًا
يثير الرغبة باللمس
أو استعادته
قبل أن يتلاشى ببطءٍ أمامه

...

الهرمون المبتهجون في ركن القاعة
يخنقون الشعلات المتبقّية
برؤوس أصابعهم المبلّلة بالريق
ويتبادلون الهدايا كأنّها غنائم حرب

 

* هذه النصوص من مجموعةٍ قيد الإصدار.

 


 

أنس العيلة

 

 

 

شاعر وكاتب فلسطينيّ مقيم في باريس، أصدر عدّة مجموعات شعريّة تُرجمت إلى الفرنسيّة، آخرها "عناقات متأخّرة". ينشر مقالاته في مجلّات ثقافيّة وأكاديميّة.